المختار السعيدي نائب رئيس جمعية الضاد
العمر : 48 نقاط : 12530 تاريخ التسجيل : 18/08/2008
بطاقة الشخصية معلومات شخصية: 40
| موضوع: في ظلال القرآن الكريم - سيد قطب - البقرة - 5 ( 1-29) الأربعاء أغسطس 26, 2009 11:22 am | |
| 4 - «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» .. وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ، وارثة العقائد السماوية ، ووراثة النبوات منذ فجر البشرية ، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان. وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها .. قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح .. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية اللّه للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها. هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد. قيمتها هى الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام. « (1/59) وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .. وهذه خاتمة السمات. الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا ، وأنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى وأن العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئن قلبه ، وتستقر بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ، وإلى عدل اللّه ورحمته في نهاية المطاف. واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا الحيز الصغير المحدود. (1/60) وكل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة الإنسانية ، ومن ثم كانت هي صفات المتقين. وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا ، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة. فالتقوى شعور في الضمير ، وحالة في الوجدان ، تنبثق منها اتجاهات وأعمال وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة وتصل الإنسان باللّه في سره وجهره. وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلّي يشمل عالمي الغيب الشهادة ، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول. ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن ، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة ، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة اللّه في الصورة التي اختارها ، وجعلها صلة بين العبد والرب. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا بالإخاء. ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق ، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة. ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين .. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك ، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما. شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها. ومن ثم صنع اللّه بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة البشر جميعا .. ومن ثم كان هذا التقرير : 5 - «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا. والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم. _____________ (1) أخرجه الترمذي.(1/41) في ظلال القرآن ، ج 1 ، ص : 42 6 - فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين. وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين : « (1/61) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين .. فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين. إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر .. ان هذه النوافذ المفتحة كلها هناك ، مغلقة كلها هنا. وإن الوشائج الموصولة كلها هناك ، مقطوعة كلها هنا : 7 - «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ» ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولا صدى. «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» .. فلا نور يوصوص لها ولا هدى.! وقد طبع اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاء وفاقا على استهتارهم بالإنذار ، حتى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار. إنها صورة صلدة ، مظلمة ، جامدة ، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة. حركة الختم على القلوب والأسماع ، والتغشية على العيون والأبصار .. «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. وهي النهاية الطبيعية للكفر العنيد ، الذي لا يستجيب للنذير والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار كما علم اللّه من طبعهم المطموس العنيد. 8 - ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة. أو إلى النموذج الثالث : إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها. وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها. ولكنها تتلوى في الحس. وتروغ من البصر ، وتخفى وتبين .. إنها صورة المنافقين : « (1/62) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ، قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا. وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا. نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح. وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس ، وعلى تصورهم للأمور! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية ، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل. وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل. (1/63) إنهم يدّعون الإيمان باللّه واليوم الآخر. وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين. إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.(1/42) في ظلال القرآن ، ج 1 ، ص : 43 9 - وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون اللّه كذلك أو يحاولون : «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» .. وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من اللّه كريم .. تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي حقيقة الصلة بين اللّه والمؤمنين. إنه يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره. وشأنهم شأنه. يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم .. التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوي السامق والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى اللّه - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفه ، ويرفعه إلى جواره الكريم .. فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟! وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم. تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع اللّه القوي الجبار القهار. وأنهم إنما يحاربون اللّه حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة اللّه حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة. (1/64) وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين. ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين .. ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون اللّه والذين آمنوا بقولهم : آمنا باللّه وباليوم الآخر. ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء .. ولكن يا للسخرية! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية : «وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ، وَما يَشْعُرُونَ» .. إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور! إن اللّه بخداعهم عليم والمؤمنون في كنف اللّه فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم. أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها. يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين. وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه. وينتهون بها إلى شر مصير! 10 - ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة؟ ولما ذا يخادعون هذا الخداع؟ «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» .. في طبيعتهم آفة. في قلوبهم علة. وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم. ويجعلهم يستحقون من اللّه أن يزيدهم مما هم فيه : «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» .. فالمرض ينشئ المرض ، والانحراف يبدأ يسيرا ، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد. سنة لا تتخلف. سنة اللّه في الأشياء والأوضاع ، وفي المشاعر والسلوك. فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم. المصير الذي يستحقه من يخادعون اللّه والمؤمنين : «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» .. | |
|