ومن ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس ، مطمئن السريرة ، قرير الضمير .. عشت أرى يد اللّه في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف اللّه وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها .. «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ؟» .. «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» .. «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» .. «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» .. «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» .. «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» .. «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .. «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» .. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .. إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة ، والمشيئة المطلقة .. واللّه يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمت أن يد اللّه تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة وأنه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على اللّه شيئا. فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة ، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية ، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة .. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض ، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته ، وقوته وضعفه ، وحالاته المتغيرة التي تعتريه .. إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض ، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته ، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة.كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه اللّه لها يوم أنشأه .. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم! .. الإنسان هو هذا الكائن بعينه. بفطرته وميوله واستعداداته ، يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته ، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته ، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى اللّه .. ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح ، لا يحده عمر فرد ، ولا تستحثه رغبة فان ، يخشى أن يعجله الموت عن تحقيق غايته البعيدة كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر ، وتسيل الدماء ، وتتحطم القيم ، وتضطرب الأمور. ثم يتحطمون هم في النهاية ، وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة ، يدفعها من هنا ، ويردعها من هناك ، ويقومها حين تميل ، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها. إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة .. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف .. فالزمن ممتد ، والغاية واضحة ، والطريق إلى الهدف الكبير طويل ، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة ، وتتطاول فروعها وتتشابك .. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة. ثم يكون دائما ما يريده اللّه أن يكون ..
والزرعة قد تسفى عليها الرمال ، وقد يأكل بعضها الدود ، وقد يحرقها الظمأ ، وقد يغرقها الري. ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء ، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل فلا يعتسف ولا يقلق ، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة ، السمحة الودود .. إنه المنهج الإلهي في الوجود كله .. «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» ..
والحق في منهج اللّه أصيل في بناء هذا الوجود. ليس فلتة عابرة ، ولا مصادفة غير مقصودة ..
إن اللّه سبحانه هو الحق. ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده : «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. وقد خلق اللّه هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل : «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» .. «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ!» والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» .. ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر ، ولا بد للباطل أن يزهق .. ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح : «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» ..
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق ، باقية بقاءه في الأرض : «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ، زَبَدٌ مِثْلُهُ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» ... «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ..
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟وانتهيت من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين جازم حاسم .. إنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة .. إلا بالرجوع إلى اللّه ..
والرجوع إلى اللّه - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة واحدة وطريق واحد .. واحد لا سواه .. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج اللّه الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم .. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها. والتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض ، والشقاوة للناس ، والارتكاس في الحمأة ، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون اللّه :
«فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
إن الاحتكام إلى منهج اللّه في كتاب ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار ، إنما هو الإيمان ..
أو .. فلا إيمان .. «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» ..
والأمر إذن جد .. إنه أمر العقيدة من أساسها .. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها ..
إن هذه البشرية - وهي من صنع اللّه - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع اللّه ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ، ولا تسلك في أمر نفسها ، وفي أمر إنسانيتها ، وفي أمر سعادتها أو شقوتها .. ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة .. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز. ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه ، فترده إلى المصنع الذي منه خرج ، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب ، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف ، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه : «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟» ..
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة. البشرية المسكينة الحائرة ، البشرية التي لن تجد الرشد ، ولن تجد الهدى ، ولن تجد الراحة ، ولن تجد السعادة ، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير ، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير! ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات ..
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة و«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ»
..تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن ، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن ، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور .. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا ، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور ، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء .. نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال ، والعظمة والارتفاع ، والبساطة واليسر ، والواقعية والإيجابية ، والتوازن والتناسق ... بحيث لا يخطر للبشرية على بال ، لولا أن اللّه أراده لها ، وحققه في حياتها .. في ظلال القرآن ، ومنهج القرآن ، وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ونحي الإسلام عن القيادة. نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة. صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم ، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان! إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ثم يقولون لها : اختاري!!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج اللّه!!! وهذا خداع لئيم خبيث. فوضع المسألة ليس هكذا أبدا .. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني. إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة .. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه اللّه له ، وأقدره عليه ، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافىء الواجب المفروض عليه فيه وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع .. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة للّه ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام ، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي اللّه. فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة ، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى .. فهم سيئو النية ، شريرون ، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال ، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة ، وأن تطمئن إلى كنف اللّه ...
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ولكن ينقصهم الوعي الشامل ، والإدراك العميق ..
هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة. فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية ، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ويجعلون للقوانين الطبيعة مجالا ، وللقيم الإيمانية مجالا آخر ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا. اتبعوا منهج اللّه أم خالفوا عنه. حكموا بشريعة اللّه أم بأهواء الناس!
هذا وهم .. إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين. فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن اللّه في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره .. وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن. ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ». وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه : «فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» .. وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله اللّه بهم : «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..
إن الإيمان باللّه ، وعبادته على استقامة ، وإقرار شريعته في الأرض ... كلها إنفاذ لسنن اللّه.
وهي سنن ذات فاعلية إيجابية ، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية ، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية .. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ولكنها تظهر حتما في نهايته .. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا ..
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار ، بينما جناحه الآخر مهيض ، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك .. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج اللّه ، وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة اللّه للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون .. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم ، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني ، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير ، ونظافة في الشعور ، وضخامة في الاهتهامات ، ورفعة في الخلق ، واستقامة في السلوك ... وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن اللّه كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية .. فكلها أطراف من سنة اللّه الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته ، وإيمانه وصلاحه ، وعبادته
ونشاطه .... هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة اللّه الشاملة للوجود .. وكلها تعمل متناسقة ، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق بينما تفسد آثارها وتضطرب ، وتفسد الحياة معها ، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم :
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين مجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع.
ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط ، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق ، ولا يحول بين الناس وسنة اللّه الجارية ، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى وينبغي لها أن تطارده ، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم ..
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن. لعل اللّه ينفع بها ويهدي.
وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه ..
سيد قطب