كذلك كانت هناك طائفة المنافقين. ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها ، والتي أشرنا إليها من قبل ولم يكن لها وجود بمكة. فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة ، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها. على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا ، وكانت الدعوة مطاردة ، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم ، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء. فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ويضطر لمضانعتها كثيرا أو قليلا - وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم.
ومن هؤلاء عبد اللّه بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة ..
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين ، ندرك من بعض فقراته أن المعنيّ بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين! : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى «شَياطِينِهِمْ». والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود ، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد. أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة :
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة .. كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء ، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب. ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا! - فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا .. فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه. ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم ، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج ، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون بالأنصار ، إلى المهاجرين ، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق.
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب اللّه المختار ، وأن فيهم الرسالة والكتاب. فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما. فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب! فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب اللّه ، بحكم أنهم أعرف به من المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين .. أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة! ثم إنهم حسدوا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - حسدا شديدا. حسدوه مرتين : مرة لأن اللّه اختاره وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى : ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة. ويذوبوا في المجتمع الإسلامي. وهما أمران - في تقديرهم - أحلاهما مر! لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة ، (و سور غيرها كثيرة) في تفصيل دقيق ، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه .. جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذا النداء العلوي لهم : «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؟ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .. وبعد تذكير هم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم اللّه عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم ..
ونكثهم لعهد اللّه معهم .. جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم : «أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا :
آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟» ..
«وَقالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. قُلْ : أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .. «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» ... «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. قالُوا : نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» ... «وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ... «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» ...
«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ...
«وَقالُوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى . تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» ... «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ... إلخ إلخ.
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا. مما جعل القرآن يخاطبهم - في عهد النبي - صلى اللّه عليه وسلم - كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبار هم جبلة واحدة. سماتهم هي هي ، ودورهم هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين. ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها. وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة! وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا ..